لم تكن الامور في البلدان العربية في النصف الاول من القرن العشرين مثالية ، ولكن مع الاسف تطورت اليوم لتصبح اسوء وباتت تلك المراحل في نظر اجيال اليوم تمثل "عصر ذهبي" او " زمن جميل" قد لا يعود ..
الطيب الصالح او "عبقري الرواية العربية" في قصته موسم الهجرة للشمال يضعنا في اجواء ريف السودان الدافئة ، تلك البيئة الاولى البكر التي لم تقتحمها زحمة الحياة ونمط المدينة المتوحش، حيث الناس يعيشون على البساطة والقبول والتسليم.
ككل الروائيين الكبار يرسم الصالح في مخيلتك صورا تجعلك داخل المشهد تعيش الاحداث ، يخيل اليك بانك طالما عرفت المكان وخبرت اهله .. وانت تقرأ موسم الهجرة للشمال ، يخيل اليك بانك بشكل او باخر تنتمي الى احداث القصة وانك كنت هناك شخصا خفيا او روحا تطوف في المكان شاهدا على احداثها .. عايشت كل تلك التفاصيل
قصة " مصطفى سعيد " هذا الغريب الذي اتى الى القرية واستطون فيها ، هادئا ساكنا تحيط به الاسرار .. يختفي فجأة وتبدأ رحلة البحث عن حقيقته في سياق درامي لا يخلو من المفاجأت والتشويق ..
ما يميز الطيب الصالح هو قدرته الفائقة على الوصف المكاني والحسي ، بعبارات بسيطة تصل بسهولة الى عقل وقلب كل من يقرأها يبرهن لك كم يرتبط الانسان الريفي في منطقتنا ببيئته .. يقول الصالح في علاقته مع قريته ..
"اني اعرف هذه القرية شارعا شارعا ، وبيتا بيتا .. .. والقبور ايضا اعرفها واحدا واحد ... واعرف ساكنيها الذين ماتوا قبل ان يولد ابي واللذين ماتوا بعد ولادتي"
ومع ان القصة تمتلك حبكة قوية واحداث مترابط متسارعة ، ولكن هذا لا يجعل الكاتب ينسى ان يصف لنا البيئة العامة من خلال صور رائعة ترسم في مخيلته صورا ينقلها الينا ببراعة تبرهن على عبقريته ..
"انتشر دم المغيب فجأة في الافق الغربي كدماء ملايين ماتوا في حرب عارمة نشبت بين الارض والسماء ، وانتهت الحرب فجأة بالهزيمة ، ونزل ظلام كامل مستتب احتل الكون باقطابه الاربعة .."
ولا تنسحب قدرته هذه في وصف الطبيعة فحسب، بل ايضا على شخصيات الرواية التي ينجح في رسم معالمها بشكل رشيق ساحر دون ان يغالي في الوصف وفي سرد دقائق التفاصيل .. يقول عن جده المعمر الذي قارب المائة عام ..
" .. .. انه كشجيرات السيال في صحارى السودان .. تقهر الموت لانها لا تسرف في الحياة .. انه عاش رغم الطاعون والمجاعات والحروب وفساد الحكام .. "
انها صورة كافية وافية لتفهم ان هذا العجوز خبير ، بسيط ، حكيم ، منتصب ما زال صلب وثابت رغم تقدمه بالعمر وسفره عبر عقود سنواته التسعة ..
بالنسبة لي يمكن ان اعتبر الحوار الذي صاغه الكاتب بين اربعة شخصيات ثلاثة رجال وامرأة من شخصيات القصة كلهم في سن الشيخوخة، يستحضرون مغامراتهم العاطفية وعلاقاتهم الجنسية في سياق طريف آثر ، هو اكبر دليل على عبقرية الكاتب ومقدرته في احياء كلمات الرواية لتصبح حقيقة واقعة لا يستطتيع القارئ الا ان يعيشها وكانه جزء لا يتجزأ منها ..
بغض النظر عن الرسائل التي كان يريد الطيب الصالح ان يمررها في روايته ، تلك الرسائل التي يفسر القراء شيفرتها بحسب توزعهم الجغرافي وامتدادهم على محور الزمن .. فان موسم الهجرة للشمال تبقى علامة فارقة لمحبي الكتاب .. للمعجبين بالرواية .. هؤلاء الذين يعشقون السفر عبر الزمان والمكان ..
مراجعة : نضال معلوف